فصل: تفسير الآيات (13- 18):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.سورة الأنعام:

مكية كلها غير ست آيات منها نزلت في المدينة: {وما قدروا اللّه حق قدره} إلى آخر ثلاث آيات وقوله: {قل تعالوا أتل عليكم} إلى قوله: {لعلكم تتقون} فهذه الست مدنيات وباقي السورة كلها نزلت بمكة مجملة واحدة ليلاً ومعها سبعون ألف ملك وقد سدوا ما بين الخافقين لهم زجل بالتسبيح والتحميد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «سبحان اللّه العظيم» وخر ساجداً ثم دعا الكتّاب فكتبوها من ليلتهم. وهي مائة وخمس وستون آية وكلها حجاج على المشركين، كلماتها ثلاثة آلاف واثنان وخمسون كلمة وحروفها اثنا عشر ألفاً وأربعمائة وعشرون حرفاً.
روى ابن عباس عن أُبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد، فمن قرأ سورة الأنعام صلى عليه أولئك السبعون ألف ملك بعدد كل آية من الأنعام يوماً وليلة».
مسلم عن أبي صالح عن جابر بن عبد اللّه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ ثلاث آيات من أول سورة الأنعام إلى قوله: {ويعلم ما تكسبون} وكل اللّه به أربعين ألف ملك يكتبون له مثل عبادتهم إلى يوم القيامة وينزل ملك من السماء السابعة ومعه مرزبة من حديد، فإذا أراد الشيطان أن يوسوس له ويوحي في قلبه شيئاً ضربه بها ضربة كان بينه وبينه سبعون حجاباً فإذا وكل يوم القيامة يقول للرب تبارك وتعالى أبشر في ظلي وكُل من ثمار جنتي واشرب من ماء الكوثر واغتسل من ماء السبيل وأنت عبدي فأنا ربك».
قال سعيد بن جبير: لم ينزل من الوحي شيء إلاّ ومع جبرائيل أربعة من الملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه وهو قوله تعالى: {ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم} إلاّ الأنعام فإنها تنزل ومعها سبعون ألف ملك.
وروى سفيان عن أبي إسحاق عن عبد اللّه بن خليفة قال: قال عمر رضي الله عنه: الأنعام من نواجب القرآن.
بسم اللّه الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 12):

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6) وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12)}
{الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض} الآية.
قال مقاتل: قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم من ربك؟ قال: الذي خلق السماوات والأرض فكذبوه فأنزل اللّه عز وجل حامداً نفسه دالاّ بصفته على وجوده وتوحيده. {الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات} في يومين: يوم الأحد ويوم الأثنين {الأرض فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9] يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء {وَجَعَلَ الظلمات والنور} قال السدي: يعني ظلمة الليل ونور النهار.
وقال الواقدي: كل ما في القرآن من الظلمات والنور يعني الكفر والإيمان.
وقال قتادة: يعني الجنة والنار وإنما جمع الظلمات ووحد النور لأن النور يتعدى والظلمة لا تتعدى.
وقال أهل المعاني: جعل هاهنا صلة والعرب تريد جعل في الكلام.
وقال أبو عبيدة: وقد جعلت أرى الإثنين أربعة والواحد إثنين لمّا هدَّني الكبر مجاز الآية: الحمد للّه الذي خلق السماوات والأرض والظلمات والنور، وقيل: معناه خلق السماوات والأرض وقد جعل الظلمات والنور لأنه خلق الظلمة والنور قبل خلق السماوات والأرض.
وقال قتادة: خلق اللّه السماوات قبل الأرض والظلمة قبل النور والجنة قبل النار.
وقال وهب: أول ما خلق اللّه مكاناً مظلماً ثم خلق جوهرة فصارت ذلك المكان، ثم نظر إلى الجوهرة نظر الهيئة فصارت دماً فارتفع بخارها وزبدها، فخلق من البخار السماوات ومن الزبد الأرضين.
وروى عبد اللّه بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن اللّه عز وجل خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه يومئذ من ذلك النور إهتدى ومن أخطأه ضلّ» {ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}.
قال قطرب: هو مختصر يعني الذين كفروا بعد هذا البيان بربهم يعدلون الأوثان أي يشركون وأصله من مساواة الشيء بالشيء يقال: عدلت هذا بهذا إذا ساويته به.
وقال النضر بن شميل: الباء في قوله: {بِرَبِّهِمْ} بمعنى عن، وقوله: {يَعْدِلُونَ} من العدول. أي يكون ويعرفون.
وأنشد:
وسائلة بثعلبة بن سير ** وقد علقت بثعلبة العلوق

وأنشد:
شرين بماء البحر ثم ترفعت ** متى لجج خضر لهن نئيج

أي من البحر قال اللّه تعالى: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله} [الإنسان: 6] أي منها.
محمد بن المعافى عن أبي صالح عن ابن عباس قال: فتح أول الخلق بالحمد لله، فقال: {الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض} وختم بالحمد، فقال: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالحق وَقِيلَ الحمد لِلَّهِ رَبِّ العالمين} [الزمر: 75].
حماد عن عبد اللّه بن الحرث عن وهب قال: فتح اللّه التوراة بالحمد فقال: الحمد للّه الذي خلق السماوات والأرض وختمها بالحمد فقال: {وَقُلِ الحمد لِلَّهِ الذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} [الإسراء: 111] الآية. قوله تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ} [الأنعام: 2] يعني آدم عليه السلام فأخرج ذلك مخرج الخطاب لهم إذ كانوا ولده.
وقال السدي: بعث اللّه جبرئيل إلى الأرض ليأتيه بطينة منها فقالت الأرض: إني أعوذ باللّه منك أن تنقص مني فرجع ولم يأخذ، وقال: يا ربّ إنها عاذت بك، فبعث ميكائيل فاستعاذت فرجع فبعث ملك الموت فعاذت منه باللّه فقال: أنا أعوذ باللّه أن أخالف أمره فأخذ من وجه الأرض وخلط التربة الحمر والسودا والبيضاء فلذلك اختلفت ألوان بني آدم ثم عجنها بالماء العذب والمالح والمر فلذلك اختلفت أخلاقهم فقال اللّه عز وجل لملك الموت رَحِمَ جبرئيل وميكائيل الأرض ولم ترحمها لا جرم أجعل أرواح من أخلق من هذا الطين بيدك.
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن اللّه خلق آدم من تراب جعله طيناً ثم تركه حتى كان حمأً مسنوناً خلقه وصوّره ثم تركه حتى إذا كان صلصالاً كالفخار فكان ابليس يمرّ به فيقول خلقت لأمر عظيم ثم نفخ اللّه فيه روحه» {ثُمَّ قضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ}.
قال الحسن وقتادة والضحاك: الأجل الأول ما بين أن يخلق إلى أن يموت. والأجل الثاني ما بين أن يموت إلى أن يبعث وهو البرزخ.
وقال مجاهد وسعيد بن جبير: ثم قضى أجلاً يعني أجل الدنيا وأجل مسمىً عنده وهو الآخرة.
عطية عن ابن عباس: ثم قضى أجلاً هو النوم تقبض فيه الروح ثم ترجع إلى صاحبها حين اليقظة. {وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ} هو أجل موت الإنسان. ثم قضى أجلاً يعني جعل لأعماركم مدة تنتهون إليها لا تجاوزونها، وأجل مسمى يعني وهو أجل مسمى عنده لا يعلمه غيره، الأجل المسمى هو الأجل الآجل.
{ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ} تشكون في البعث {وَهُوَ الله فِي السماوات وَفِي الأرض يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} يعني وهو إله السماوات وإله الأرض.
مقاتل: يعلم سر أعمالكم وجهرها، قال: وسمعنا أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا بكر محمد بن أحمد، محمد بن أحمد البلخي يقول: هو من مقاديم الكلام وتقديره وهو اللّه يعلم سركم وجهركم في السماوات والأرض فلا يخفى عليه شيء {وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} تعملون من الخير والشر {وَمَا تَأْتِيهِم} يعنى كفار أهل مكّة {مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ} مثل انشقاق القمر وغيره {إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ} لها تاركين وبها مكذبين {فَقَدْ كَذَّبُواْ بالحق} يعني القرآن وقيل: محمد عليه الصلاة والسلام {لَمَّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} أي أخبار استهزائهم وجزاؤه فهذا وعيد لهم فحاق بهم هذا الوعيد يوم يرونه {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ} يعني الأمم الماضية والقرن الجماعة من الناس وجمعه قرون، وقيل: القرن مدة من الزمان، يقال ثمانون سنة، ويقال: مائة سنة، ويكون معناه على هذا القول من أهل قرن {مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ} يعني أعطيناهم ما لم نعطكم.
قال ابن عباس: أمهلناهم في العمر والأجسام والأولاد مثل قوم نوح وعاد وثمود، ويقال: مكنته ومكنت له فجاء [......] جميعاً {وَأَرْسَلْنَا السمآء} يعني المطر {عَلَيْهِم مِّدْرَاراً}.
تقول العرب: مازلنا نطأ السماء حتى آتيناكم مدراراً أي غزيرة كثيرة دائمة، وهي مفعال من الدر، مفعال من أسماء المبالغة، ويستوي فيه المذكر والمؤنث.
قال الشاعر:
وسقاك من نوء الثريا مزنة ** سعراً تحلب وابلاً مدراراً

وقوله: {مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ} من خطاب التنوين كقوله تعالى: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم} [يونس: 22].
وقال أهل البصرة: أخبر عنهم بقوله: {أَلَمْ يَرَوْاْ} وفيهم محمد وأصحابه ثم خاطبهم، والعرب تقول: قلت لعبد اللّه ما أكرمه وقلت لعبد اللّه أكرمك {وَجَعَلْنَا الأنهار تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا} وخلقنا وابتدأنا {مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ * وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً} الآية.
وقال الكلبي ومقاتل: أنزلت في النضر بن الحرث وعبدالله بن أبي أمية ونوفل بن خويلد قالوا: يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند اللّه ومعه أربعة من الملائكة يشهدون عليه أنه من عند اللّه وأنك رسول فأنزل اللّه عز وجل فلو نزلنا عليك كتاباً {فِي قِرْطَاسٍ} في صحيفة مكتوباً من عند الله {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} عاينوه معاينة ومسوه بأيديهم {لَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} لما سبق فيهم من علمي {وَقَالُواْ لولا أُنزِلَ عَلَيْهِ} على محمد {مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمر} أي لوجب العذاب وفرغ من هلاكهم لأن الملائكة لا ينزلون إلاّ بالوحي والحلال {ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ} الكافرون ولا يمهلون.
قال مجاهد: لقضي الأمر أي لقامت الساعة.
وقال الضحاك: لو أتاهم ملك في صورته لماتوا.
وقال قتادة: لو أنزلنا المكارم ولم يؤمنوا لعجل لهم العذاب ولم يؤخروا طرفة عين {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً} يعني ولو أرسلنا إليهم ملكاً {لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} يعني في صورة رجل آدمي لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة {وَلَلَبَسْنَا} ولشبهنا وخلطنا {عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} يخلطون ويشبهون على أنفسهم حتى يشكوا فلا يدرى أملك هو أم آدمي.
وقال الضحاك وعطية عن ابن عباس: هم أهل الكتاب فرقوا دينهم وكذبوا رسلهم وهو تحريف الكلام عن مواضعه فلبس اللّه عليهم ما لبسوا على أنفسهم.
وقال قتادة: ما لبس قوم على أنفسهم إلاّ لبس الله عليهم.
وقرأ الأزهري: وللبسنا بالتشديد على التكرير يقال: ألبست العرب ألبسه لبساً وإلتبس عليهم الأمر ألبسه لبساً {وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ} كما استهزئ بك يا محمد يعزي نبيّه صلى الله عليه وسلم {فَحَاقَ}.
قال الربيع بن أنس: ترك. عطاء: أحل.
مقاتل: دار. الضحّاك: إحاطة.
قال الزجاج: الحيق في اللغة ما اشتمل على الإنسان من مكروه فعله ومنه: يحيق المكر السيّئ.
وقيل: وجب. والحيق والحيوق الوجوب.
{بالذين سَخِرُواْ} هزئوا {مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ}.
فحاق بالذين سخروا من المرسلين العذاب وتعجيل النقمة {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المكذبين المستهزئين {سِيرُواْ} سافروا في الأرض معتبرين {ثُمَّ انظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين} أي آخر أمرهم وكيف أورثهم الكفر والكذب الهلاك والعذاب، يخوّف كفار أهل مكة عذاب الأمم الماضية {قُل لِّمَن مَّا فِي السماوات والأرض} فإن أجابوك وإلاّ {قُل للَّهِ} يقول يفتنكم بعدد الأيام لا [.....] والأصنام ثم قال: {كَتَبَ} ربكم أي قضى وأوجب فضلاً وكرماً {على نَفْسِهِ الرحمة}.
وذكر النفس ها هنا عبارة عن وجوده وتأكيد وحد وارتفاع الوسائط دونه وهذا استعطاف منه تعالى للمتولين عنه إلى الإقبال إليه وإخبار بإنه رحيم بعباده لا يعجل عليهم بالعقوبة ويقبل منهم الإنابة والتوبة.
هشام بن منبه قال: حدثنا أبو عروة عن محمد رسول صلى الله عليه وسلم قال: «لما قضى اللّه الخلق كتب في كتاب وهو عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي».
وقال عمر لكعب الأحبار: ما أول شيء ابتدأه اللّه من خلقه؟ فقال كعب: كتب اللّه كتاباً لم يكتبه بقلم ولا مداد ولكنّه كتب بإصبعه يتلوها الزبرجد واللؤلؤ والياقوت: إني أنا اللّه لا إله إلاّ أنا سبقت رحمتي غضبي.
وقال سلمان وعبدالله بن عمر: إن للّه تعالى مائة رحمة كل رحمة منها طباق ما بين السماء والأرض فاهبط منها رحمة واحدة إلى أهل الدنيا فيها يتراحم الإنس والجان وطير السماء وحيتان الماء وما بين الهواء والحيوان وذوات الأرض وعنده مائة وسبعين رحمة، فإذا كان يوم القيامة أضاف تلك الرحمة إلى ما عنده.
ثم قال: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} اللام فهي لام القسم والنون نون التأكيد، مجازه: واللّه ليجمعنكم {إلى يَوْمِ القيامة} يعني في يوم القيامة إلى يعني في، وقيل: معناه ليجمعنكم في غيركم إلى يوم القيامة {لاَ رَيْبَ فِيهِ الذين خسروا} غلبوا على أنفسهم والتنوين في موضع نصب مردود على الكاف والنون من قوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} ويجوز أن يكون رفعاً بالإبتداء وخبره فهم لا يؤمنون، فأخبر اللّه تعالى أن الجاحد للآخرة هالك خاسر.

.تفسير الآيات (13- 18):

{وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)}
{وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الليل والنهار} الآية.
قال الكلبي: إن كفار مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم يا محمد إنا قد علمنا أنه ما يحملك على ما تدعونا إليه إلاّ الحاجة، فنحن نجمع ذلك من أموالنا ما نغنيك حتى تكون من أغنانا فأنزل اللّه تعالى قوله: {وَلَهُ مَا سَكَنَ} أي استقر {فِي الليل والنهار} من خلق.
قال أبو روحى: إن من الخلق ما يستقر نهاراً وينتشر ليلاً ومنها ما يستقر ليلاً وينتشر نهاراً. وقال عبد العزيز بن يحيى ومحمد بن جرير: كلّ ما طلعت عليه الشمس وغيبت فهو من ساكن الليل والنهار والمراد جميع ما في الأرض لأنه لا شيء من خلق اللّه عز وجل إلاّ هو ساكن في الليل والنهار، وقيل: معناه وله ما يمر عليه الليل والنهار.
وقال أهل المعاني: في الآية لغتان واختصار مجازها: وله ما سكن وشرك في الليل والنهار كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] والبرد وأراد في كل شيء {وَهُوَ السميع} لأصواتهم {العليم} بأسرارهم.
وقال الكلبي: يعني هو السميع لمقالة قريش العليم بمن يكسب رزقهم {قُلْ} يا محمد {أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً} رباً معبوداً وناصراً ومعيناً {فَاطِرِ السماوات والأرض} أي خالقها ومبدعها ومبدئها وأصل الفطر الشق ومنه فطر ناب الجمل إذا شقق وابتدأ بالخروج.
قال مجاهد: سمعت ابن عباس يقول: كنت لا أدري ما فاطر السماوات والأرض حتى أتاني اعرابيان يختصمان في بعير. فقال أحدهما لصاحبه: أنا فطرتها، أنا أحدثتها {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} أي وهو يرزق ولا يرزق وإليه قوله عز وجل {مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 57].
وقرأ عكرمة والأعمش: ولا يَطعم بفتح الياء أي وهو يرزق ولا يأكل.
وقرأ أشهب العقيلي: وهو يُطعِم ولا يُطعَم كلاهما بضم الياء، وكسر العين.
قال الحسن بن الفضل: معناه هو القادر على الإطعام وترك الإطعام كقوله: {يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ} [الرعد: 26].
وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا منصور الأزهري بهراة يقول: معناه وهو يطعم ولا يستطعم، يقول العرب: أطعمت غيري بمعنى استطعمت.
وأنشد:
إنّا لنطعم من في الصيف مطعماً ** وفي الشتاء إذا لم يؤنس القرع

أي استطعمنا وقيل: معناه وهو يطعم يعني اللّه ولا يطعم يعني الولي {قُلْ إني أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} أخلص {وَلاَ تَكُونَنَّ} يعني وقيل لي: ولا تكونن {مِنَ المشركين} {قُلْ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} تعبدت غيره {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} وهو يوم القيامة.
{مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ} يعني من يُصَرف الغضبُ عنه.
وقرأ أهل الكوفة: يصرف بفتح الياء وكسر الراء على معنى من صرف اللّه عنه العذاب، واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم لقوله: {من الله} بأن قبل فيما قبله: {قُل لِّمَن مَّا فِي السماوات والأرض قُل للَّهِ} [الأنعام: 12]، ولقوله فيما بعده {رَحِمَهُ} ولم يقل: فقد رحم، على الفعل المجهول.
ولقراءة أُبيّ: من يصرفه الله عنه. يعني يوم القيامة، وهو ظرف مبني على الخبر لإضافة الوقت إلى إذ كقولك: حينئذ وساعتئذ {فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الفوز المبين} يعني نجاة البينة {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ} بشدة وبلية وفقر ومرض {فَلاَ كَاشِفَ} دافع وصارف {لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ} عافية ورخاء ونعمة {فَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ} من الخير والشر {قَدُيرٌ}.
روى شهاب بن حرش عن عبد الملك بن عمير عن ابن عباس قال: أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة أهداها له كسرى فركبها جهل بن شعر ثم أردفني خلفه وسار بي ملياً ثم احتنا لي وقال لي: يا غلام، قلت: لبيك يا رسول اللّه، قال: «إحفظ اللّه يحفظك احفظ اللّه تجده أمامك، تعرَّف إلى اللّه في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت فأسأل اللّه وإذا استعنت فاستعن باللّه قد مضى القلم بما هو كائن فلو عمل الخلائق أن ينفعوك بما لم يقض الله لك لما قدروا عليه ولو جهدوا أن ينصروك بما لم يكتب اللّه عليك ما قدروا عليه فإن استطعت أن تعمل بالصبر مع اليقين فافعل، فإن لم تستطيع فاصبر فإن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً واعلم أن النصر مع الصبر فإن مع الكرب الفرج وإن مع العسر يسراً».
{وَهُوَ القاهر} القادر الغالب {فَوْقَ عِبَادِهِ} وفي القهر معنى زائد على القدرة وهو منع غيره عن بلوغ المراد.
{وَهُوَ الحكيم} في أمره {الخبير} بما جاء من عباده.